فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ولولا فضل الله} أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة {ورحمة} عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة.
{لمسكم} العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال: أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض.
{إذ تلقونه} لعامل في {إذا} {لمسكم}.
وقرأ الجمهور {تلقونه} بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال {إِذ} في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ.
وقرأ ابن السميفع {تُلْقُونَه} بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه {تَلْقَونه} بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي.
وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب: ولق الرجل كذب، حكاه أهل اللغة.
وقال ابن سيده، جاؤوا بالمتعدي شاهدًا على غير المتعدي، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير.
وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد، وكلام في أثر كلام، يقال: ولق في سيره إذا أسرع قال:
جاءت به عيسى من الشام يلق

وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب.
وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا: تيجل مضارع وجلت.
وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود.
ومعنى {بأفواهكم} وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} {وتحسبونه هينًا} أي ذنبًا صغيرًا {وهو عند الله عظيم} من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لولا} و{قلتم}؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى.
وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول: لولا زيدًا ضربت وهلا عمرًا قتلت.
قال الزمخشري: فإن قلت: فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلًا؟ قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قلت: ما معنى {يكون} والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت: معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي {لنا أن نتكلم بهذا} ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق {وسبحانك} تعجب من عظم الأمر.
فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قيل فيها انتهى.
{يعظكم الله أن تعودوا} أي في أن تعودوا، تقول: وعظت فلانًا في كذا فتركه.
{إن كنتم مؤمنين} حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح.
وقيل: {أن تعودوا} مفعول من أجله أي كراهة {أن تعودوا}.
{ويبين الله لكم الآيات} أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب، ويعظكم من المواعظ الشافية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ}.
خطابٌ للسَّامعينَ والمسمِّعينَ جميعًا {وَرَحْمَتُهُ في الدنيا} من فنون النِّعمِ التي من جُملتها الإمهالُ للتَّوبة {والأخرة} من ضروب الآلاءِ التي من جُملتها العفوُ والمغفرةُ بعد التَّوبةِ {لَمَسَّكُمْ} عاجلًا {فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} بسبب ما خضتُم فيه من حديث الإفكِ، والإبهامُ لتهويل أمرِه والاستهجانِ بذكرِه. يقالُ أفاضَ في الحديثِ وخاضَ واندفعَ وهضبَ بمعنى {عَذَابٌ عظِيمٌ} يُستحقر دونَه التَّوبيخُ والجلدُ.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بحذف إحدى التَّاءينِ ظرفٌ للمسِّ أي لمسَّكم ذلكَ العذابُ العظيمُ وقتَ تلقِّيكم إيَّاه من المخترعينَ {بِأَلْسِنَتِكُمْ} والتَّلقِّي والتلقُّفُ والتلقُّنُ معانٍ متقاربةٌ خلا أنَّ في الأولِ معنى الاستقبالِ وفي الثَّاني معنى الخَطفِ والأخذِ بسرعةٍ وفي الثَّالثِ معنى الحِذْقِ والمهارةِ. وقرئ تَتَلقَونه على الأصل وتلقونه من لقيَه وتلقونَه بكسرِ حرفِ المُضارعةِ وتُلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتَلْقُونه وتألقونَه من الولقِ والألق وهو الكذبُ وتثقفونَه من ثقفتُه إذا طلبتُه وتتقفونَه أي تتبعونَه {وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولونَ قولًا مختصًّا بالأفواهِ من غيرِ أنْ يكونَ له مصداقٌ ومنشأٌ في القلوبِ لأنَّه ليسَ بتعبيرٍ عن علمٍ به في قلوبكم كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا} سهلًا لا تبعةَ لهُ أو ليسَ له كثيرُ عقوبةٍ {وَهُوَ عِندَ الله} والحالُ أنَّه عنده عزَّ وجلَّ {عظِيمٌ} لا يُقادرُ قَدرُه في الوِزرِ واستجرارِ العذابِ.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} من المخترعينَ أو المشايعينَ لهم {قُلْتُمْ} تكذيبًا لهُم وتهويلًا لما ارتكبُوه {مَّا يَكُونُ لَنَا} ما يُمكننا {أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} وما يصدرُ عنَّا ذلكَ بوجهٍ من الوجوهِ وحاصلُه نفيُ وجودِ التَّكلمِ به لا نفيُ وجوده على وجه الصِّحَّةِ والاستقامةِ والانبغاءِ وهذا إشارةٌ إلى ما سمعُوه. وتوسيطُ الظَّرفِ بينَ لولا وقلتُم لما مرَّ من تخصيصِ التَّحضيضِ بأول وقتِ السَّماعِ وقصرِ التَّوبيخِ واللَّومِ على تأخيرِ القولِ المذكورِ عن ذلك الآنَ ليفيدَ أنَّه المحتملُ للوقوعِ المفتقرُ إلى التَّحضيضِ على تركه وأما تركُ القولِ نفسِه رأسًا فمما لا يُتوهَّم وقوعُه حتَّى يحضَّض على فعلِه ويلامَ على تركه، وعلى هذا ينبغي أنْ يحملَ ما قيل إنَّ المعنى أنَّه كان الواجبُ عليهم أنْ يتفادَوا أولَ ما سمعُوا بالإفك عن التَّكلُّم به فلمَّا كان ذكرُ الوقتِ أهمَّ وجبَ التَّقديمُ وأمَّا ما قيل من أنَّ ظروفَ الأشياءِ منزَّلةٌ أنفسَها لوقوعِها فيها وأنها لا تنفكُّ عنها فلذلك يتَّسعُ فيها ما لا يتَّسعُ في غيرِها فهي ضابطةٌ ربَّما تستعملُ فيما إذا وضع الظَّرفُ موضعَ المظروفِ بأنْ جُعل مفعولًا صريحًا لفعلٍ مذكورٍ كما في قوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} أو مقدَّرٍ كعامةِ الظُّروفِ المنصوبةِ بإضمارِ اذكُر، وأمَّا هاهنا فلا حاجةَ إليها أصلًا لما تحققت أنَّ مناطَ التَّقديمِ توجيهُ التحضيضِ إليه وذلك يتحقَّقُ في جميع متعلقاتِ الفعلِ كما في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا} {سبحانك} تعجُّبٌ ممَّن تفوَّه به وأصلُه أن يذكرُ عند معاينةِ العجيبِ من صنائعِه تعالى تنزيهًا له سبحانَه عنْ أنْ يصعبَ عليه أمثالُه ثمَّ كثُر حتَّى استُعملَ في كلِّ متعجَّبٍ منه أو تنزيهٌ له تعالى عن أنْ تكونَ حُرمةُ نبيِّه فاجرةً فإنَّ فجورَها تنفيرٌ عنه ومخلٌّ بمقصودِ الزَّواجِ فيكون تقريرًا لمَا قبلَه وتمهيدًا لقوله تعالى: {هذا بهتان عَظِيمٌ} لعَظَمَةِ المبهوتِ عليه واستحالةِ صدقِه فإنَّ حقارةَ الذُّنوبِ وعظمَها باعتبار مُتعلقاتِها.
{يَعِظُكُمُ الله} أي ينصحُكم {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} أي كراهةَ أنْ تعودُوا أو يزجرُكم مِن أن لا تعودُوا من قولِك: وعظتُه في كذا فتركَه {أَبَدًا} أي مدَّةَ حياتِكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ الإيمانَ وازعٌ عنه لا محالةَ وفيه تهييجٌ وتقريعٌ.
{وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الأيات} الدَّالَّةَ على الشَّرائعِ ومحاسنِ الآدابِ دلالةً واضحةً لتتَّعِظوا وتتأدَّبوا بها أي يُنزلها كذلكَ أي مبينةً ظاهرةَ الدِّلالةِ على معانيها لا أنَّه يُبينها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك وهذا كما في قولِهم: سبحانَ من صغَّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أي خلقَهُما صغيرًا وكبيرًا ومنه قولُك: ضُيِّقَ فمُ الرَّكيَّةِ ووُسِّعَ أسفلُها. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتفخيم شأنِ البيانِ {والله عَلِيمٌ} بأحوالِ جميعِ مخلوقاتِه جلائلِها ودقائقِها {حَكِيمٌ} في جميع تدابيرِه وأفعالِه فأنَّى يمكن صدقُ ما قيل في حقِّ حُرمةِ مَن اصطفاهُ لرسالاته وبعثَه لكافَّةِ الخلقِ ليرشدَهم إلى الحقِّ ويزكيهم ويُطهرَهم تطهيرًا. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ هاهنا لتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ والإشعارِ بعلَّةِ الأُلوهيَّةِ للعلم والحكمةِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} أي تفضله سبحانه: {عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} إياكم {فِى الدنيا} بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وفي يَخَافُونَ الآخرة بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة، وفي الكلام نشر على ترتيب اللف، وجوز أن يتعلق {فِى الدنيا والاخرة} بكل من فضل الله تعالى ورحمته، والمعنى لولا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين {لَمَسَّكُمْ} عاجلًا {فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الافك.
والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره أفاض في الحديث وخاض وهضب واندفع بمعنى، والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في الإناء، و{لَوْلاَ} امتناعية وجوابها {لَمَسَّكُمْ} {عَذَابِ} يستحقر دونه التوبيخ والجلد، والخطاب لغير ابن أبي من الخائضين، وجوز أن يكون لهم جميعًا.
وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لاحظ له من رحمة الله تعالى في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}.
بحذف إحدى التاءين و{إِذْ} ظرف للمس، وجوز أن يكون ظرفًا لافضتم وليس بذاك، والضمير المنصوب لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الأفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، والتلقي والتلقف والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الاستقبال وفي التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق والمهارة.
وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه {تتلقونه} على الأصل، وشد التاء البزي، وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة.
وقرأ ابن السميقع {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى، وعنه {تَلَقَّوْنَهُ} بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقى، وقرأت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام كذبه حكاه السرقسطي، وفيه رد على من زعم أن ولقى إذا كان بمعنى كذب لا يكون متعديًا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاء أبو حيان ولذا جعل ذلك من باب الحذف والايصال والأصل تلقون فيه، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول: الوالق الكذب، وقال ابن أبي مليكة: وكانت اعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها.
وقال ابن الأنباري: من ولق الحديث انشأه واخترعه، وقيل: من ولق الكلام دبره، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد وكلام في أثر كلام ويقال: ناقة ولقى سريعة، ومنه الأولق للمجنون لأن العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت.